لا أحد يعلم عدد العلويين العزّل الذين قُتلوا في سوريا بين 6 و10 آذار/مارس 2025، لكن بعض التقديرات تشير إلى أنهم تجاوزوا الثلاثين ألفاً. ومع أن العلويين يشكّلون نسبة صغيرة من السكان (حوالي 2-3 مليون نسمة في سوريا)، إلا أنهم لطالما وُضعوا في موقع استثنائي يجمع بين التهميش والاستهداف.

عبر قرون طويلة، كان العلويون من أكثر الفئات عزلة واضطهادًا، لا بسبب دينهم بل بسبب جذورهم الفكرية والثقافية العميقة التي لم تتوافق مع الأُطر الدينية السياسية السائدة. لم تكن لهم سلطة فعلية على سوريا، بل كانوا تاريخيًا ضحايا للاستبعاد والاستغلال، وقد طمست الأنظمة الحاكمة مساهماتهم الفلسفية والدينية والعلمية في حضارة المنطقة.

الرواية السائدة التي تصوّرهم كطبقة حاكمة منذ عام 1966 هي قراءة سطحية ومغلوطة للتاريخ، لا سيما أن الحكم السوري منذ الاستقلال وحتى اليوم لم يكن يومًا دينيًا بل سياسيًا-عسكريًا. ومجرد وجود أفراد من الطائفة في مؤسسات الدولة لا يعني أن العلويين كمجتمع كانوا في موضع سيطرة. في الواقع، معظمهم عاش فقرًا وتهميشًا داخل قراهم، ولم تكن لهم امتيازات تُذكر.

العلويون عبر التاريخ
الموروث العلوي لا يمكن اختزاله في الإسلام السياسي، بل تعود جذوره إلى المدارس الفلسفية القديمة كالرواقية والفيثاغورية، وهو متداخل مع حضارات كبرى كالحضارة السريانية الآشورية، التي تجاوز عمرها 6775 عامًا. العلويون ينظرون إلى الدين كرحلة عقلية ونورانية، لا كقوانين ظاهرية. ولذلك، تمّ استبعادهم من المنظومات الدينية التي لا تحتمل التفكير الحر والتأمل الفلسفي.

تمّت شيطنتهم من قِبل بعض التيارات الدينية المتشددة، لا لشيء سوى لأنهم حافظوا على تأويل خاص للوجود والمعنى، وأصرّوا على دور العقل في الإيمان. كتب بعض رجال الدين التاريخيين فتاوى بقتلهم وسبي نسائهم، وتمت معاملتهم ككفرة لا لجرم ارتكبوه، بل لأنهم رفضوا الانصهار في قوالب دينية سلطوية.

فخلال الحكم العثماني، فُرضت عليهم ضرائب باهظة، ومُنِعوا من الوصول إلى المناصب العامة، وسُلبوا أراضيهم. وفي العصر الحديث، بقي كثير منهم في القرى الجبلية المعزولة، لا يتلقّون تعليمًا ولا خدمات صحية، ويتعرضون للتنميط من قبل وسائل الإعلام والنخب الدينية المهيمنة.

ظهورهم التدريجي
لم يكن للعلويين أي دور يُذكر في إدارة الدولة قبل الاستقلال عن فرنسا. وبعد الاستقلال، انخرط بعض أفرادهم في الجيش والتعليم، بحثًا عن حياة كريمة بعيدًا عن التمييز. لكن حتى بعد 1963، فإن أي نفوذ حصلوا عليه لم يكن تمثيليًا للطائفة، بل جزءًا من صراع أوسع داخل النخب العسكرية والحزبية.

إن تصويرهم على أنهم سيطروا على سوريا هو تضليل يخدم أجندات طائفية. لم تكن “العلوية” هي ما يحكم البلاد، بل تحالفات ضيقة داخل النظام السياسي، يشترك فيها علويون وسنّة ودروز ومسيحيون. ولو كان الحكم علوياً بالفعل، لما بقي أغلب العلويين في قراهم دون بنية تحتية ولا مؤسسات ولا فرص.

السردية الطائفية ضدهم
حين بدأت الحرب في 2011، لم تكن ثورة ضد طائفة، بل ضد منظومة سياسية. لكن قوى إقليمية ودولية عملت على تحويلها إلى صراع طائفي، مستخدمة خطاب الكراهية والشيطنة ضد العلويين. تم تصويرهم وكأنهم “الحاكم المتسلط” بينما هم في الحقيقة مواطنون عاديون، مات كثير منهم في الحرب أو تم تهجيرهم من مناطقهم.

العلويون لم يشكلوا يومًا تهديدًا لأي دين أو مذهب، بل كانوا دائماً الطرف المُضطهَد، الباحث عن السلام. فلسفتهم تؤمن بالنور والعدل، وتُقدّم الإمام علي كرمز للحكمة والمعرفة لا للسلطة. لم يرفعوا سيفًا في وجه أحد، بل رُفِع السيف عليهم مرارًا.

العلويون اليوم
بعد انتهاء الحرب، يُواجه العلويون اليوم تحديًا جديدًا: محو هويتهم الفكرية، وتشويه تاريخهم، وتحميلهم مسؤولية دولة لم تكن تمثلهم. هم ليسوا “حكاماً سابقين” كما يُروج البعض، بل ضحايا جُدُد في مرحلة ما بعد الصراع. وقد آن الأوان لإعادة تعريفهم لا عبر روايات الكراهية، بل عبر مساهماتهم في الفكر والحضارة.

إن الحملة لتشويه العلويين يجب أن تُواجَه بالحقيقة: هم أقدم من الدول الحديثة، أعمق من التصنيفات الطائفية، وأرقى من أن يُستخدموا وقودًا لحروب الكراهية. لقد آن أوان إعلاء صوت العدالة، ليُقال بوضوح: العلويون ليسوا أعداءً، بل جزءٌ أصيلٌ من نسيج هذا الشرق، بماضيه ومستقبله.

العلويون قبل 1920: تاريخ طويل من التهميش والاضطهاد

قبل تأسيس الدولة السورية الحديثة وبدء الانتداب الفرنسي عام 1920، عاش العلويون قرونًا طويلة في ظل أنظمة سياسية ودينية مارست بحقهم الإقصاء والتهميش والعنف المنهجي.

1. التهميش الديني والاجتماعي

  • بسبب اختلاف معتقداتهم الروحية والفلسفية عن النسق الديني السائد (الفقه السني التقليدي)، اعتُبر العلويون “منحرفين عن الدين” أو “زنادقة” من قبل بعض الفقهاء.
  • تم إصدار فتاوى تحض على استباحة دمائهم وأموالهم، بل واعتبارهم خارجين عن “ملة الإسلام”، رغم أن الكثير منهم كان يعلن الشهادتين ويؤدي بعض الشعائر.

2. التمييز الاقتصادي والمعيشي

  • العلويون عاشوا بمعظمهم في المناطق الجبلية الوعرة (جبال الساحل السوري)، حيث لم تصل الخدمات ولا التعليم ولا الفرص الاقتصادية.
  • لم تكن هناك بنى تحتية، وعاشوا في فقر مدقع، يشتغلون بالفلاحة أو كخدم لدى الإقطاعيات المدينية.
  • في أواخر العصر العثماني، سُجل أن أقل من 1% من العلويين كانوا يعيشون في المدن، مما يعكس عمق العزلة القسرية.

3. الضرائب والعقوبات الخاصة

  • في العهد العثماني، فُرضت على العلويين ضرائب إضافية تفوق ما يدفعه المسلمون الآخرون.
  • لم يُسمح لهم بتولّي مناصب رسمية أو الالتحاق بالمدارس الشرعية أو الجيوش العثمانية النظامية.

4. الخطاب التكفيري

  • بعض العلماء المتشددين كالخطيب البغدادي وابن تيمية وغيرهم، وصفوا العلويين بألفاظ بالغة القسوة، بل أفتوا بجواز قتلهم واستباحة نسائهم وأطفالهم.
  • هذا الخطاب استُخدم لتبرير المجازر والعنف الذي تعرّض له العلويون في مناطق عدة عبر التاريخ.

5. الاغتراب الثقافي

  • نتيجة هذه الممارسات، طوّر العلويون ثقافة انكفائية، عاشوا في عزلة وانكفاء فكري، ورفضوا الانخراط في مؤسسات الدولة خوفًا من القمع أو الوصم.

قبل عام 1920، لم يكن للعلويين أي دور في السلطة أو مراكز القرار، بل كانوا فئة مستضعفة ومضطهدة دينيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. عانوا من الإقصاء المنهجي وواجهوا حملات تكفيرية حرمتهم من أبسط حقوقهم، ما اضطرهم للانغلاق على أنفسهم في الجبال، بعيدًا عن الحياة العامة.
وهذا التاريخ من التهميش يجب أن يُفهم كجزء من المسار الطويل الذي يفسّر دفاع العلويين لاحقًا عن وجودهم، لا بوصفهم سلطة، بل بوصفهم أقلية تبحث عن الأمان والكرامة في بيئة سياسية قاسية ومشحونة بالطائفية.

صعود العلويين إلى مواقع التأثير بين عامي 1920 و1970: تحوّل من التهميش إلى المشاركة

خلال الفترة ما بين 1920 و1970، بدأت ملامح تحول اجتماعي وسياسي تدريجي في وضع العلويين داخل سوريا، لكن لا بد من توضيح أن هذا “الصعود” لم يكن طائفياً ولا منظّماً، بل جاء نتيجة ظروف تاريخية متشابكة فرضتها البيئة السياسية والعسكرية التي كانت تحكم سوريا آنذاك.


1. الانتداب الفرنسي ودور العلويين

  • مع الانتداب الفرنسي على سوريا (1920 – 1946)، سعت فرنسا إلى تفتيت البنية الوطنية السورية عبر إنشاء دول طائفية صغيرة، ومن بينها “دولة العلويين” (1922–1936) بهدف إضعاف دمشق.
  • بعض أبناء الطائفة رأوا في ذلك حماية من الظلم التاريخي، بينما رفض آخرون ذلك، وساهموا في الحركات الوطنية السورية.
  • خلال هذه المرحلة، أُتيح للعلويين دخول الجيش الفرنسي وخدمة الدولة، وهو ما لم يكن متاحًا لهم في العهد العثماني، ما أتاح لعدد منهم كسب خبرات وانخراطًا في مؤسسات الدولة الحديثة لاحقًا.

2. الجيش: المؤسسة التي كسرت الحواجز الطبقية

  • بعد الاستقلال عام 1946، ظلّ الجيش السوري هو المؤسسة الوحيدة التي يمكن للفقراء والريفيين، بمن فيهم العلويون، دخولها دون وساطة أو ثروة أو نسب.
  • العلويون، بحكم فقرهم وتهميشهم، انخرطوا بأعداد كبيرة في الجيش، لا بدافع الهيمنة، بل لأنه كان من القنوات القليلة للارتقاء الاجتماعي.
  • في المقابل، كانت النخب السنية المدينية تُفضل الابتعاد عن الجيش وتحتكر المناصب المدنية والإدارية، مما خلق فراغًا ملأه الريفيون من مختلف الطوائف.

3. حزب البعث: منصة للفقراء والمهمّشين

  • تأسيس حزب البعث عام 1947 بشعاراته الاشتراكية والقومية والعلمانية جذب العديد من أبناء الفئات المحرومة، ومنهم العلويون، لأنه وعد بإزالة الحواجز الطبقية والطائفية.
  • أحد مؤسسي الحزب، زكي الأرسوزي، كان علويًا من لواء إسكندرون، لكن الحزب كان متعدد الطوائف والانتماءات.
  • العلويون لم يسيطروا على الحزب، بل شاركوا فيه كبقية المهمّشين من دروز وإسماعيليين وفلاحين وسنّة من الأطراف.

4. الانقلابات العسكرية واستثمار الفُرَص

  • في فترة الانقلابات المتتالية (1949–1963)، كانت السلطة السياسية تتغيّر سريعًا، والنخب المدينية تتآكل بفعل الصراعات.
  • خلال هذه الاضطرابات، تمكن بعض الضباط العلويين من شغل مواقع عسكرية مؤثرة، ليس لأنهم يمثلون الطائفة، بل لأنهم لم يكونوا طرفًا في النزاعات بين الضباط السنّة الكبار، فاستُخدموا كأدوات، ثم فرضوا أنفسهم لاحقًا بفعل الكفاءة والفراغ القيادي.

5. انقلاب 1966: بداية مرحلة جديدة

  • في انقلاب 1966، سيطر ضباط من خلفيات ريفية، بعضهم علويون، على الحكم وأقصوا البعثيين التقليديين.
  • لكن لم تكن “العلوية” هي ما جمعهم، بل الانتماء الطبقي والتوجّه الأيديولوجي، فحتى في هذا الانقلاب تمّت تصفيات داخل الطائفة نفسها، ولم تكن هناك سلطة علويّة موحّدة.
  • هذا الانقلاب فتح الطريق لصعود حافظ الأسد لاحقًا، والذي تولى الحكم عام 1970، لكنه لم يكن يمثّل العلويين، بل نظامًا أمنيًا سياسيًا محكومًا بالولاءات العائلية والشخصية.

صعود بعض أبناء الطائفة العلوية في الفترة من 1920 إلى 1970 لم يكن نتيجة مخطط طائفي ولا رغبة في السيطرة، بل كان ناتجًا عن:

  • انهيار النظام الطبقي العثماني،
  • تغير البنية العسكرية،
  • دخول المهمّشين إلى مؤسسات الدولة،
  • واستغلال الفُرَص المتاحة لمنع العودة إلى الهامش.

لكن هذا الصعود لم يُترجم إلى سلطة تمثل الطائفة العلوية، بل إلى حكم مركزي أمني لا يمثل أحدًا سوى نفسه، وكان أبناء الطائفة في معظمهم فقراء بعيدين عن أي نفوذ حقيقي.

“الحكم العلوي” و”الصدمة السنيّة”: خرافة إعلامية لتبرير الكراهية

فكرة أن العلويين “حكموا سوريا” لمدة 58 عامًا، وأن السنّة أصيبوا بـ”الصدمة” نتيجة هذا الحكم، ليست سوى سردية مصطنعة وخطيرة. إنها تبسيط فجّ لتاريخ سوريا المعقد، واختزال شعب كامل وهويّة فكرية عميقة إلى صورة نمطية ظالمة، الهدف منها تغذية الصراع الطائفي وتبرير العنف.


أولًا: لم يكن هناك “حكم علوي”

  • سوريا لم تُحكم يومًا من قبل طائفة أو مذهب، بل حُكمت عبر أنظمة أمنية عسكرية، يتصدرها أشخاص ينتمون إلى خلفيات متنوّعة.
  • وجود شخصيات علويّة في المناصب العليا لا يعني أن “العلويين” كانوا في الحكم. تمامًا كما أن وجود رؤساء وزراء مسلمين في أوروبا لا يعني “حكم الإسلام”.
  • أغلب العلويين خلال العقود الماضية كانوا فقراء، مهمشين، دون تمثيل سياسي أو ثقافي حقيقي، يعيشون في قراهم أو في ضواحي المدن في ظروف قاسية.

ثانيًا: فكرة “الصدمة السنّية” تخلق خطابًا عنصريًا

  • تصوير أن “السنّة صُدموا” لأن “علويًا يحكم دمشق” هو منطق يشبه العنصرية، تمامًا كما لو أن أحدًا قال: “صُدمت لأن امرأة أصبحت رئيسة”، أو “صُدمت لأن أفريقيًا أصبح حاكمًا”.
  • السنّة في سوريا هم شركاء في الوطن، وكان لهم حضور كبير في كل الحكومات والوزارات والجيش والبرلمان، حتى خلال فترة الأسد.
  • الأكثر خطورة أن هذه “الصدمة” استُخدمت لاحقًا لتبرير المجازر والتحريض والدعوات إلى الإبادة بحق العلويين، بحجة “استعادة السلطة”.

ثالثًا: النظام لم يكن دينيًا بل سلطويًا

  • نظام الأسد (الأب والابن) لم يُظهر أي التزام فعلي بالعقيدة العلوية أو الدينية عمومًا، بل كان نظامًا براغماتيًا علمانيًا ظاهريًا، يعتمد على الأجهزة الأمنية، وليس على الفقه أو العقيدة.
  • معظم حلفائه من السنّة والمسيحيين والدروز والإسماعيليين ورجال الأعمال، وكان يبني تحالفاته على الولاء السياسي، لا على الهوية الطائفية.

رابعًا: الطائفية هي سلاح السلطة لا مذهبها

  • النظام استخدم الطائفية كأداة لتفكيك المجتمع وليس كعقيدة، واستغلها لإبقاء الشعب منقسمًا، ليبقى هو المستفيد الوحيد من هذا الانقسام.
  • لم يكن النظام يمثل العلويين، بل استثمر في الطائفة لتأمين نفسه، كما استثمر في رجال دين سنة لخدمة صورته، تمامًا كما يفعل كل المستبدين.

لا يوجد “حكم علوي”… بل خرافة لتبرير الدم

فكرة أن العلويين حكموا، وأن السنّة صُدموا، هي اختراع سياسي طائفي يهدف إلى:

  • زرع الكراهية بين المكونات،
  • تصوير الضحية كجلاد،
  • وفتح الباب أمام العنف بحجة “الثأر”.

الحقيقة أن الشعب السوري بكل طوائفه عاش تحت حكم استبدادي لا يمثل أحدًا، وضحاياه من جميع المذاهب. وما يُسمى بـ”العلوية السياسية” هو مجرد قناع زائف لحكم الفرد المطلق، لا علاقة له بفكر العلويين ولا بمصالحهم.

تحليل واقعي بعيدًا عن التعميم

الفكرة القائلة إن سوريا كانت تحت “حكم علوي” منذ عام 1966 هي قراءة اختزالية تخلط بين الانتماء الطائفي لبعض الأفراد في السلطة، وبين تمثيل طائفة بأكملها. في الحقيقة، النظام الذي حكم سوريا منذ ذلك التاريخ كان نظامًا سلطويًا يعتمد على الأجهزة الأمنية والتحالفات الشخصية والعائلية، وليس على العقيدة أو الهوية الطائفية.

صحيح أن بعض الضباط الذين وصلوا إلى مراكز السلطة بعد انقلاب 1966 كانوا من الطائفة العلوية، لكنهم لم يحكموا باسم الطائفة، ولم يمثلوا أبناءها، بل حكموا باسم المؤسسة الأمنية والحزب الحاكم. وقد تم استبعاد الكثير من أبناء الطائفة أنفسهم ممن لم يكونوا موالين للنظام. التعميم بأن “العلويين” حكموا هو تضليل، لأن ملايين العلويين بقوا في قراهم يعيشون التهميش والفقر، تمامًا مثل غيرهم من السوريين.

من جهة أخرى، فكرة أن “السنّة” ككتلة موحّدة كانوا معارضين لهذا الحكم هي أيضًا مبالغة. المعارضة السياسية للنظام السوري ضمت أفرادًا من مختلف الطوائف والانتماءات، وكان بين أبرز المعارضين مثقفون سنّة وعلويون ومسيحيون وأكراد. التوتر السياسي لم يكن بين “العلويين والسنّة” بل بين السلطة الاستبدادية وبين من يطالب بالتغيير، بغض النظر عن خلفيته.

2011–2024: فهم أعمق للسياق

مع انطلاق الاحتجاجات في سوريا عام 2011، بدأت حركة شعبية سلمية تطالب بالإصلاح والحرية والعدالة، وشارك فيها مواطنون من جميع المذاهب والطوائف. لكن سرعان ما تم تسييس هذه الحركة وتطييفها بفعل عوامل داخلية وخارجية، على رأسها التدخلات الإقليمية والدولية، والخطابات الإعلامية التي دفعت باتجاه صراع طائفي.

في هذا السياق، ظهرت تيارات متشددة وأصوات دينية متطرفة حاولت تصوير الصراع على أنه “ثورة سنّية ضد الحكم العلوي”، وهذا التوصيف خطير وغير دقيق. لأنه يختزل المجتمع السوري إلى طائفتين في صراع وجود، بينما الحقيقة أن الحرب دمّرت جميع السوريين، وقتلت أبناء كل الطوائف، وهجّرت الملايين بغض النظر عن انتمائهم.

أما بالنسبة للعلويين، فقد كانوا بين أكثر من دفعوا الثمن، حيث قتل عشرات الآلاف منهم في المعارك، وتم استنزاف مجتمعاتهم اقتصاديًا واجتماعيًا. ورغم ذلك، استمر الخطاب الطائفي في اتهامهم جماعيًا بالولاء للنظام، وكأنهم كتلة واحدة. هذا النوع من التفكير هو ما يغذي الحروب الأهلية ويمنع المصالحة الوطنية.

الحرب في سوريا لم تكن بين طائفتين، بل كانت نتيجة تراكمات سياسية وقمع وصراع مصالح إقليمية. وتم تحويلها لاحقًا إلى حرب طائفية لإجهاض مطالب الشعب وتشتيت قضيته.

كيف مُهّد للعداء الطائفي ضد العلويين في الإعلام والخطاب الديني؟

حين يتحدث البعض عن الحرب السورية بوصفها “ثورة شعبية تحولت إلى صراع طائفي”، فإنهم يتغافلون عن حقيقة خطيرة ومسكوت عنها: أن التحريض الطائفي لم يبدأ مع الثورة، بل سبقها بسنوات، وأن هناك منظومة إعلامية ودينية تمهيدية، عملت على شيطنة الطائفة العلوية وتقديمها كعدو عقائدي يجب استئصاله.

قنوات التحريض الطائفي: صفا ووصال

في منتصف العقد الأول من الألفية، ظهرت قناتان دينيتان هما “صفا” و”وصال”، ومنذ البداية كان هدفهما واضحًا: التحريض الطائفي الممنهج ضد كل ما هو مختلف، وخصوصًا الطوائف العلوية والشيعية.

تخصصت هذه القنوات في برامج تهاجم المعتقدات العلوية بوصفها “كفرًا” و”زندقة”، وتم تقديم سلاسل كاملة تحت عناوين مثل “فضح النصيرية” و”خطر الرافضة على الأمة”، مع استضافة مشايخ معروفين بخطابهم التحريضي.

عدنان العرعور: تجسيد الكراهية الدينية على الهواء

برز في هذا المشهد عدنان العرعور، الذي بات في أذهان كثيرين رمزًا للكراهية الطائفية. لم تكن خطاباته دعوية أو إصلاحية، بل دعوات مباشرة إلى العنف. قال في أحد تسجيلاته الشهيرة:

“من يتعرض لأهل السنة سنطحنه كما يُطحن الملح”.

الجمهور لم يفسّر هذه العبارة بمعناها المجازي، بل كدعوة للقتل والإبادة، خاصة في ظل تكرارها وتوظيفها إعلاميًا. هذه العبارة لم تكن زلة لسان، بل جزءًا من خطاب ثابت عند العرعور، يقوم على تقسيم السوريين إلى طائفتين: “أهل السنة” بوصفهم أهل الحق، و”النصيرية” – كما يسميهم – بوصفهم كفارًا وزنادقة.

وقد استخدم العرعور أسلوبًا تكفيريًا مزدوجًا:

  • من جهة، صوّر كل من ينتمي إلى الطائفة العلوية على أنه خارج عن الإسلام، كافر مهدور الدم.
  • ومن جهة أخرى، ميّز بين “العلوي التائب” و”الرافض للتوبة”، في خطاب أشبه بالمحاكم الفكرية القسرية التي لا تعترف بحق الإنسان في الاعتقاد أو الخصوصية الدينية، حيث لا خيار سوى إعلان الانتماء أو مواجهة القتل.

في أكثر من مناسبة، خصص العرعور حلقات كاملة للحديث عن الطائفة العلوية، ليس كفئة اجتماعية وطنية بل كتهديد عقائدي يجب اجتثاثه. وكان يقول صراحة:

“هم ليسوا طائفة من المسلمين، بل طائفة ضالة يجب إزالتها.”

وقد أكد في أكثر من ظهور تلفزيوني على فكرة أن العلويين لا يمكن التعايش معهم إلا إن أعلنوا “التوبة” العلنية عن عقيدتهم، ما يعني ضمنًا شرط التخلي عن هويتهم الفكرية والمذهبية للبقاء أحياء.

إضافة إلى ذلك، لم يكن العرعور بعيدًا عن ساحات القتال نفسيًا، إذ أصبح مرجعًا تعبويًا للفصائل المسلحة، وخصوصًا تلك ذات الطابع السلفي الجهادي. مقاطع الفيديو التي كانت تُعرض في معسكرات التدريب، أو تُستخدم لتحفيز الشباب على القتال، كثيرًا ما كانت تتضمن خطبه ودعواته المليئة بالحقد الطائفي.

الخطير في ظاهرة العرعور أنه لم يكن فردًا معزولًا، بل:

  • جسّد لحظة تحول الخطاب الديني من وعظي إلى دموي،
  • وتم تقديمه كـ”الناطق باسم الثورة”،
  • وسمّم الوعي الجمعي لدى شريحة واسعة من الجمهور، مما أدى إلى تجريد العلويين من إنسانيتهم في أعين خصومهم.

وقد تسببت تصريحاته لاحقًا في:

  • حوادث تصفية ميدانية بحق علويين فقط لأنهم علويون،
  • وصار اسمه مقرونًا بالخوف والرعب لدى العائلات التي اختبأت لمجرد أن أحد أفرادها ينتمي للطائفة.

ورغم ما تسببت به خطبه من كوارث إنسانية، لم يُحاسب، ولم يُدان علنًا، بل استمر يظهر على الشاشات ويُقدَّم بوصفه “عالمًا” و”داعيةً”، بينما كان عمليًا يؤدي وظيفة مهندس للعنف الطائفي.

يوسف القرضاوي: فتوى الجهاد ضد العلويين

في عام 2013، خرج يوسف القرضاوي بفتوى صريحة تدعو إلى “الجهاد في سوريا”، وقال نصًا:

“كل مسلم يستطيع أن يذهب للجهاد فليفعل، ومن لا يستطيع فعليه أن يدعم بالمال والدعاء”.

لم تكن الفتوى سياسية، بل دينية صريحة، تصوّر النظام السوري كـ”نصيري كافر”، وتعتبر قتال أفراده طاعة لله. هكذا، تحوّلت سوريا من ساحة احتجاجات إلى “ساحة جهاد”، والعلويون من مواطنين إلى “أعداء عقائديين”.

المساجد: منابر للتعبئة والتحريض

في كثير من المناطق السورية، لا سيما في المناطق الريفية والمدن المختلطة، تم استغلال المساجد منابر للتحريض، حيث لم تقتصر الخُطب على المطالبة بالإصلاح، بل تحولت إلى أدوات تعبئة ضد طائفة بعينها.

أصبحت عبارات مثل “تطهير الأرض من النصيرية” و”الجهاد ضد الزنادقة” مألوفة في بعض الخطب، واستخدمت مكبرات الصوت لإعلان “النفير العام”، في مشهد خطير استُبدلت فيه لغة الدين بلغة الحرب الأهلية.

محمد العريفي: حين تصبح الدعوة جبهة حرب

لم يكن الشيخ محمد العريفي بعيدًا عن هذا المشهد، فقد استخدم قنواته وخطبه ومنصاته على وسائل التواصل لتمرير خطاب ناعم المظهر، لكن مشحون بالتحريض.

وصف العلويين بـ”الخطر الداهم”، وبأنهم “أشد على الأمة من اليهود”، وشجع الشباب على “نصرة أهل السنة في سوريا”، في تعابير تشبه التعبئة العسكرية لا الخطاب الدعوي.

الخلاصة: البيئة كانت جاهزة قبل الانفجار

حين انفجرت الأوضاع في سوريا عام 2011، كانت البيئة النفسية والفكرية قد تم إعدادها مسبقًا. لم يكن التحريض الطائفي رد فعل على جرائم النظام، بل كان مخططًا ناعمًا جرى تعزيزه عبر الشاشات والمنابر والخطب لسنوات.

وقد دفع العلويون – وهم مواطنون عاديون كباقي السوريين – الثمن الأكبر لهذا التحريض، إذ تم تحميلهم جماعيًا مسؤولية النظام، وتمت شيطنتهم لا كأفراد بل كجماعة “يجب تطهيرها”.

إن الوعي بهذه الخلفية ضروري ليس لتبرئة أحد، بل لفهم جذور الحرب، ومواجهة التطرّف الطائفي أياً كان مصدره، وإعادة بناء سوريا على أساس المواطنة، لا على بُركان من الكراهية.

الحرب الأهلية في سوريا بين 2011 و2024: خوف الأقلية من الإبادة لا من سقوط النظام

مع انطلاق الثورة السورية عام 2011، انطلقت مطالب شعبية تطالب بالحرية والكرامة والعدالة، لكن سرعان ما تحولت تلك الثورة إلى حرب أهلية معقدة، بفعل قمع النظام من جهة، وتدخل قوى إقليمية ودولية من جهة أخرى. وفي خضم هذا التصعيد، بدأت الأقليات، وعلى رأسها الطائفة العلوية، تعيش حالة من الخوف الوجودي العميق، ليس بسبب الثورة بحد ذاتها، بل بسبب تحول الخطاب المعارض من سياسي إلى طائفي.


خطاب التهديد بالتطهير الطائفي

في عام 2015، صرّح أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) زعيم جبهة النصرة ذراع تنظيم القاعدة في سوريا، الذي استولى على الحكم لاحقاً، أن “العلويين سيكونون إخوتنا إن هم تخلّوا عن معتقداتهم واعتنقوا الإسلام”. هذا النوع من التصريحات لا يقدّم تطمينًا سياسيًا، بل يُرعب أقلية دينية تم اتهامها جماعيًا بالكفر، ويحمّلها مسؤولية نظام سياسي استبدادي لم يكن يمثلها أصلًا.

الخطورة في هذا الخطاب أنه يربط بقاء الفرد العلوي على قيد الحياة بتخليه عن هويته العقائدية.


الواقع الميداني في المدن المختلطة

مدن مثل حمص كانت في مقدمة مشاهد الانفجار الطائفي. التقارير التي خرجت من المدينة عام 2011 وصفت الصراع بأنه “حرب طائفية مرعبة”، حيث تم تقسيم الأحياء على أساس ديني، وبدأت عمليات الخطف والتصفية. عزّزتها شائعات بشعة مثل وجود امرأة تطلب من المسلحين جثث العلويين لتقوم بتقطيعها وبيع لحمها. هذه الشائعات، حتى وإن لم تكن صحيحة، تعكس مستوى الرعب الجماعي الذي ساد المجتمع العلوي.


الصورة النمطية التي حوّلت العلوي إلى “رمز للعدو”

ساهمت وسائل الإعلام، وصفحات التواصل، والخطاب الإسلامي المتشدد، في رسم صورة نمطية خطيرة: “العلوي = النظام”. وقد ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” أن العلويين أصبحوا في أعين كثيرين مرادفين للسلطة الأمنية.

في هذا السياق، كتب فريد الغادري أن العلويين “يخشون من الإخوان المسلمين الذين يشحذون سكاكينهم”، في تعبير صريح عن مناخ التخويف الذي ساد.


الواقع المزدوج: بين خوف العلويين من النظام وخوفهم من المعارضة

ما يجب الإقرار به أن العلويين أنفسهم عانوا من بطش النظام. كثير منهم تم قمعهم، واعتقال مثقفيهم، وتجويعهم عمدًا ليدفعوا أبناءهم نحو الانخراط الإجباري في الجيش والمخابرات طلبًا للقوت. كان النظام يستخدمهم كدروع بشرية، لا كطبقة حاكمة.

روت الطبيبة المنفية وفاء سلطان أن النظام أبقى العلويين في حالة فقر مدقع كي يضمن ولاءهم عبر الحاجة. وتم اعتقال معارضي النظام من داخل الطائفة، بل واعتقال ذويهم أيضًا. وقال أحد الشخصيات الدينية العلوية حينها: “الطائفة العلوية تعيش في حالة من الخوف العميق”، متوقعًا أن أي انهيار للنظام سيُعرضهم لعمليات قتل واسعة.

هذا القلق لم يكن تنظيرًا بل كان واقعًا، حيث قالت معلمة علوية عام 2012: “النظام يستخدمنا كدرع وسيرحل، ونحن سندفع الثمن”، وهو ما حدث بالفعل مع آلاف القتلى من شباب الطائفة، الذين زُجّوا في الخطوط الأمامية للصراع.


في المحصلة: خوف متبادل وعجز عن الاعتراف

بينما شعر كثير من السنّة بأنهم يقاتلون نظامًا “كافرًا ومستبدًا”، شعر العلويون بأنهم مهددون بالإبادة كجماعة، لا كأفراد. هذه المعادلة أنتجت دوّامة من الكراهية والرعب، جعلت العلويين أكثر تمسكًا بالنظام رغم بطشه، لأنه بات يُمثّل لهم خط الدفاع الأخير أمام خطاب علني يدعو إلى محوهم من الوجود.

لكن الحقيقة التي غفل عنها كثيرون هي أن العلويين لم يكونوا هم النظام، ولم يكونوا المستفيدين الحقيقيين من سلطته. بل كانوا إحدى أدواته في البقاء، تمامًا كما استخدم النظام الآخرين من مختلف الطوائف، وعندما سقط، تركهم يواجهون الغضب وحدهم.

عداء طائفي منظم بعد 2025: انتقام أم إبادة؟

مع سقوط النظام السوري في ديسمبر 2024، بعد أن سيطرت جماعة هيئة تحرير الشام (HTS) فرع القاعدة في سوريا بقيادة أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) على دمشق بدعم من فصائل إسلامية وجهادية أخرى، دخلت سوريا مرحلة جديدة عنوانها الخطر الوجودي المباشر على الطائفة العلوية.

المرحلة الأولى: الانتقام غير المنظم

في الأشهر الأولى التي تلت سيطرة النظام الجديد، انتشرت حوادث انتقامية غير مركزية، شملت:

  • فصل العلويين من وظائفهم في المؤسسات الحكومية.
  • الاعتداءات الفردية والعنف العشوائي في القرى والمناطق المختلطة.
  • طرد مئات العائلات من منازلها في حمص ودمشق.
  • حالات جلد علني، وتكسير أثاث، وسرقة، وتحرش بالنساء، حسب تقارير صحفية وحقوقية.

لم تكن هذه الأفعال نتيجة قانون أو قرار رسمي، بل نُفّذت من قبل فصائل محلية وميليشيات غير خاضعة للمحاسبة. لكن خطورتها كانت في الصمت الرسمي تجاهها، ورفض النظام الجديد حتى الاعتراف بها أو محاسبة مرتكبيها، مما زاد من شعور العلويين بأنهم مستهدفون جماعيًا.

مجزرة فاحل: بداية المنعطف

في 24 يناير، اقتحمت قافلة مسلحة بلدة فاحل العلوية في ريف حمص، وقام عناصرها بقتل 56 مدنيًا، منهم ضباط متقاعدون، وسحب ركاب من حافلة على الطريق وسؤالهم: “هل أنت علوي؟” ومن أجاب بالإيجاب تم قتله ميدانيًا. هذه الحادثة كانت نقطة التحول، إذ جسّدت انتقال العنف من “فوضى” إلى استهداف طائفي واضح ومنظم.

رغم بشاعة المجزرة، لم يصدر النظام الجديد أي إدانة، بل اكتفى باتهام “أفراد خارجين عن القانون”، ورفض كشف الأسماء أو المحاسبة، بل أطلق وصف “موالو النظام السابق” على الضحايا، لتبرير العنف ضدهم.

مارس 2025: بداية التطهير الجماعي

في السادس من مارس، بدأت موجة هجمات واسعة النطاق في محافظات اللاذقية وطرطوس ودمشق، حيث يشكّل العلويون غالبية السكان. الهجمات قادتها قوات من هيئة تحرير الشام، إضافة إلى الجيش الوطني السوري المدعوم تركيًا، ومقاتلين جهاديين أجانب.

النتائج كانت كارثية:

  • إحراق عشرات القرى والمنازل.
  • إعدامات ميدانية.
  • تهجير جماعي لعائلات كاملة.
  • خطابات في الإعلام تدعو علنًا إلى “رمي العلويين في البحر”.

في الوقت ذاته، قدّمت حكومة HTS هذه الهجمات على أنها “عملية لمواجهة خلايا النظام السابق”، وهو توصيف تضليلي وخطير، تجاهله المجتمع الدولي الذي ركّز على الانتقال السياسي أكثر من الكارثة الإنسانية.

التحريض الديني والإعلامي: الدعوة إلى الإبادة

أخطر ما في هذه المرحلة كان التحريض الديني المباشر ضد العلويين، عبر المساجد والإعلام الموالي للسلطة الجديدة. ومن بين النماذج:

  • خطيب الجمعة في دمشق يصرّح عبر الراديو: “ارموهم في البحر.”
  • قائد ميداني تابع لـ HTS يصيح علنًا في تسجيل مصور: “لا تتركوا علويًا واحدًا، لا رجلًا ولا امرأة. اذبحوا الرجال المحترمين فيهم. اذبحوا النساء المحترمات فيهم. اذبحوا الجميع، حتى الأطفال في أسرّتهم. إنهم خنازير.”
  • شيخ يدعى يحيى أبو الفتح الفَرغلي يطرح علنًا مشروع إسكان عائلات المجاهدين في القرى العلوية، في إشارة واضحة إلى التطهير العرقي والاستيلاء السكاني على الأرض.

الصمت الدولي والخذلان الإعلامي

رغم أن بعض الصحفيين والحقوقيين تحدثوا عن هذه الانتهاكات، إلا أن ردود الفعل الدولية كانت باهتة إلى حد الصدمة. مظاهرة صغيرة في فرانكفورت بألمانيا كانت من الأحداث النادرة التي نادت بحقوق العلويين، بينما كان الصوت المهيمن في الإعلام هو سردية “العدالة ضد النظام”، دون اعتبار للضحايا المدنيين من أبناء الطائفة.

العلويون لم يقاتلوا دفاعًا عن الأسد، ولم يكونوا حماة النظام كما رُوّج، بل كانوا مجتمعًا خائفًا ومنهكًا وجد نفسه فجأة تحت مقصلة الانتقام الجماعي. ما حدث في 2025 لم يكن مجرّد رد فعل سياسي، بل كان مشروعًا منظمًا لتطهير طائفة من وطنها، باسم “العدالة” تارة، و”القصاص الديني” تارة أخرى.

وإذا لم يتم الاعتراف بهذه الجرائم ومواجهتها بجدّية، فإنها ستُكرّر لاحقًا ضد طوائف ومجتمعات أخرى، لأن السكوت على الإبادة هو تمهيد لإبادات قادمة.

مجزرة موثّقة بالصوت والصورة: الفخر بالجريمة

في تحول مرعب، لم يكتف الجناة بارتكاب جرائمهم، بل وثقوها ونشروها على منصات التواصل. انتشرت مقاطع تُظهر قتل أولاد أمام أمهاتهم، وسحل جثث العلويين في الشوارع، وإهانة كرامتهم بإجبارهم على “النباح كالكلاب” قبل إطلاق النار عليهم.

مشاهد مثل هذه ليست أفعالًا فردية، بل مؤشرات واضحة على تحوّل العنف إلى خطاب منظم مبني على الإذلال والتجريد من الإنسانية. الهتافات التي رافقت هذه الجرائم مثل “الله أكبر” لم تكن تعبيرًا عن عبادة، بل تحويلًا لرموز دينية إلى أدوات في آلة الكراهية.


“هل أنت علوي؟”: سؤال الموت

تقارير موثقة من الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية أظهرت أن المسلحين، خلال حملات المداهمة، كانوا يفرزون الناس بناءً على هويتهم الطائفية. من قال إنه سني نجا، ومن قال إنه علوي تم قتله فورًا.

في المناطق الساحلية مثل اللاذقية وطرطوس، حيث يشكّل العلويون أغلبية، شُنّت هجمات ممنهجة ضد المدنيين، أُحرقت المنازل، وقُتلت الأسر بالجملة. في بلدة فاحل مثلًا، تم سحب رجال من بيوتهم وإعدامهم ميدانيًا، فقط لأنهم علويون.


مجزرة بانياس: الجريمة التي لم تُحاسب

تحقيق استقصائي أجرته صحيفة نيويورك تايمز كشف عن مجزرة في مدينة بانياس راح ضحيتها حوالي 1600 شخص، معظمهم من العلويين. على مدى ثلاثة أيام، جرى اقتحام المنازل، وإعدام السكان، ورمي الجثث في الطرقات والبيوت والبساتين. حتى الجثث لم يُسمح بدفنها بكرامة.

الجنود الذين أُرسلوا لـ”استعادة النظام” شارك بعضهم في الجريمة. أنشأت الميليشيات نقاط تفتيش لمنع العلويين من الهرب، فيما ارتدت بعض النساء الحجاب لتفادي القتل، في صورة تعكس رعبًا وجوديًا من المحو الجماعي.


النساء المختفيات: شبح جديد يلوح

خلال أول 100 يوم من عام 2025، وثّق المرصد السوري لحقوق الإنسان اختفاء ما لا يقل عن 50 امرأة علوية، وسط مخاوف من تكرار نماذج اختطاف الإيزيديات في العراق. لم تسجل حالات اغتصاب جماعي موثقة بعد، ولكن تم الإبلاغ عن التعذيب والإهانة والإذلال الممنهج.


العلويون يشهدون على محنتهم

شهادات الناجين مرعبة:

  • طبيب قال إن “عائلات بأكملها تم محوها”.
  • امرأة من ريف حمص وصفت كيف أن المقاتلين دخلوا المنازل، وقتلوا الرجال والنساء والأطفال، وسرقوا الممتلكات، وأحرقوا الناس بعد الإعدام الجماعي.
  • أحد الشهود قال: “إنهم يجعلوننا نوقّع تحت تهديد السلاح على تسليم بيوتنا وسياراتنا، ثم يطردوننا.”

الهجوم لم يكن فقط على الأحياء، بل شمل حتى الجثث التي بقيت في الطرقات دون دفن، لأن السكان لم يجرؤوا على الاقتراب منها. أُجبر بعض الأهالي على دفن ذويهم في مقابر جماعية دون مراسم دينية أو حتى أسماء.


النزوح الجماعي واليأس الوجودي

أمام هذا المشهد، بدأت موجات نزوح عارمة:

  • 30,000 علوي فرّوا إلى لبنان خلال أبريل فقط، بحسب الأمم المتحدة.
  • 8000 لاجئ، معظمهم نساء وأطفال، لجؤوا إلى قاعدة حميميم الروسية.
  • آخرون اختبأوا في الكهوف والمزارع والمنازل المهجورة.

في استطلاع أجرته صحيفة الإيكونوميست، كان العلويون أكثر تشاؤمًا بسبع مرات من باقي السوريين، وغالبية من التقتهم الصحيفة قالوا إنهم لا ينوون العودة أبدًا.


التصريحات الرسمية: إنكار بوجه الدم

رغم حجم الفظائع، اكتفى أحمد الشرع زعيم تنظيم القاعدة في سوريا وحاكمها الجديد بالقول إن ما يجري هو “تحديات متوقعة”، داعيًا السوريين إلى “الهدوء”، مدعيًا أن الحكومة ستشكل لجنة تحقيق.

لكن الحقائق كانت تشير إلى تنظيم واسع للجرائم لا يمكن أن تتم دون غطاء سياسي مباشر. كما أشار باحثون ، فإن المشاركين في الجرائم هم أنفسهم رجال الشرع وميليشياته، الذين قاتلوا معه لسنوات.


صمت العالم وتواطؤ الدول

رغم التقارير والشهادات، كان رد الفعل الدولي باهتًا:

  • أدانت واشنطن والعواصم الغربية “العنف” بشكل عام، لكنها رفعت العقوبات عن الحكومة الجديدة دون أي مطالبات بحقوق الأقليات.
  • حتى الأمم المتحدة اكتفت بتوصيف ما يجري بأنه “انتهاكات مروّعة”، دون تحرك ملموس.

خلاصة: الإبادة التي يُراد نسيانها

ما واجهه العلويون بعد 2025 لا يمكن اختزاله في “رد فعل” على نظام سابق، بل هو تجريد جماعي من الإنسانية، سُوّق تحت مسميات “العدالة” و”التحرر”، لكنه في حقيقته حرب على الوجود.

ورغم كل الدمار، فإن العلويين لم يردّوا بإبادة مضادة، بل نزحوا وصمتوا وطلبوا النجاة فقط. والعار الآن لم يعد على من قتل، بل على من رأى وخرس.